
رأي موحّد، ذاك الذي يسير الجميع في ركابه، ومن يجرؤ على الخروج عنه يُطرد خارج المعسكر، هو رأي غير إنساني، غير ديمقراطي، وغير يهودي أيضاً، وما إلى ذلك من أوصاف.
منذ تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية، سيطرت حملتان إعلاميتان، والآن، ومع انتقال سلس بشكل خاص، تبدأ الحملة الثالثة بالظهور، وربما تكون الأكثر استفزازاً حتى الآن.
قبل السابع من أكتوبر، عايشنا حملة "الانقلاب القضائي"، ثم تحولت إلى حملة الأسرى بمختلف أشكالها (رغم أن الجميع بات يدرك أنها كانت من أكثر الأمور التي أضرت بالأسرى). والآن، تزداد وتيرة حملة "غزة الجائعة". ويبدو أن قضية الأسرى أصبحت ثانوية نسبياً.
دعونا نضع جانباً الحقائق الأساسية، تلك التي يتم التحقق منها تجريبياً وتُظهر أن في غزة فائضاً من السعرات الحرارية يفترض أن يكفي الجميع، وإذا لم تصل هذه السعرات إلى مستحقيها، فهذه ليست مسؤولية إسرائيلية، بل نتيجة مباشرة لاستمرار سيطرة حماس على القطاع.
ونضع جانباً أيضاً السؤال الأساسي: متى في التاريخ قام خصم عسكري بإطعام وسقي سكان خصمه أثناء الحرب وفي منطقة لا يزال خصمه يسيطر عليها؟ لا حاجة للبحث المطول في الكتب أو الإنترنت، لأن ذلك لم يحدث قط.
الحرب هي الحرب، والأذى اللاحق بالمدنيين - لا سيما من يدعمون المقاتلين - كان ولا يزال جزءاً مؤلماً وغير مرغوب فيه من ثمن الحرب. نعم، يشمل ذلك الأطفال أيضاً، وهذا لا يعني أنهم مجرمون أو أن أحداً يسعى لقتلهم أو تقليص عدد السكان أو غير ذلك من هذه الأوهام. إنها ببساطة حقيقة مؤسفة من حقائق الحياة الإنسانية.
نتجاهل أيضاً الانتقائية المعروفة (وهي قضية ذات صلة في هذا السياق، خاصة بالنسبة لوسائل الإعلام العالمية)، والتي تتجاهل مجازر الدروز في سوريا أو آلاف الأحداث الأخرى، من أجل إيجاد ذريعة لاتهام اليهود. ناهيك عن أن لغزة حدوداً أخرى نكاد ننسى وجودها، مع دولة عربية مزدهرة، بإمكانها - إن أرادت - أن تتصرف بإنسانية وتستقبل مؤقتاً آلاف الجياع من سكان غزة.
هناك أمران أود التركيز عليهما في السطور التالية.
الأول هو عجز ما يُسمى التيار التقدمي - في العالم عموماً وفي إسرائيل خصوصاً - عن الربط بين الفعل والنتيجة. أي، حتى لو افترضنا وجود مجاعة في غزة، وحتى لو كان ذلك يستحق التغطية الإعلامية، فهل وقعت هذه المجاعة من العدم؟ هل هبطت على غزة من السماء؟ هل استيقظت حكومة إسرائيل ذات صباح وقررت تجويع الغزيين؟ لأن هذا هو الانطباع الذي يحصل عليه المتابع لوسائل الإعلام الإسرائيلية الرئيسية. وغالباً ما تُضاف إليه حجج تقول إن الهدف هو تأجيج الحرب السياسية للمحافظة على الائتلاف، أو شيء من هذا القبيل.
في عالم نزيه، كل من يعرض صورة طفل جائع في غزة، كان سيذكر أيضاً نصف رغيف الخبز الذي مُنح للأسرى كوجبة يومية. وكل من يتحدث عن الموت جوعاً في غزة، كان سيشير في الوقت ذاته إلى الموت العنيف والوحشي الذي جلبه سكان غزة إلى بلدات الجنوب، إلى التنظيم الإرهابي الذي أنشأوه ورعوه، وإلى رغبتهم في قتلنا جميعاً. لا يمكن عرض النتيجة دون السبب، أو الحديث عن حدث دون شرح ما أدى إليه.
النقطة الثانية، والتي أتردد في تحديد ما إذا كانت تمثل ظاهرة إيجابية، هي انفصال وسائل الإعلام عن الشعب في إسرائيل. بطبيعة الحال، يُفترض بوسائل الإعلام أن تعكس رغبات الشعب وقيمه واهتماماته. بعبارة أخرى، عندما تُضخ المعلومات حول المجاعة في غزة، يفترض الإعلام أن المواطن الإسرائيلي لن ينام جيداً إذا ما شعر بأن الغزي جائع، وأنه سيفقد إنسانيته وتعاطفه.
لكن لا شيء أبعد عن الواقع من ذلك. وكما قال الحاخامات: "اخرج وانظر ما يقوله الناس". باستثناء أصحاب المصالح المعروفين، وخاصة في أوساط اليسار المتطرف، لا يهتم الإسرائيليون كثيراً. لأسباب ذكرناها، وأيضاً لأن هناك أموراً يرونها أكثر أهمية. مثل الأمن الشخصي، إعادة إعمار بلدات الجنوب والشمال، إنعاش الاقتصاد، وتغيير المفهوم الأمني لإسرائيل، وغير ذلك.
نعم، ستواصل وسائل الإعلام على ما يبدو حملتها، ثم ستتفاجأ لماذا لا يتفاعل معها الإسرائيليون، ولماذا يغضبون على الصحفيين الذين يزورون المدن الطرفية، ولماذا يكرهونهم في الشبكات الاجتماعية، والأهم من ذلك، لماذا يفشلون في الانتخابات، مرة تلو الأخرى، وحملة بعد حملة. لأنهم ببساطة منفصلون عن الواقع.